فصل: ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ ‏(‏يا غلام، إنى معلمك كلمات‏:‏ احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما / أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن فى الصبر على ما تكره خيراً كثيراً‏)‏، وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله‏)‏ هو من أصح ما روى عنه‏.‏ وفى المسند لأحمد‏:‏ أن أبا بكر الصديق كان يسقط السَّوط من يده فلا يقول لأحد‏:‏ ناولنى إياه، ويقول‏:‏ إن خليلى أمرنى ألا أسأل الناس شيئا‏.‏ وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسرّ إليهم كلمة خفية‏:‏ ‏(‏ألا تسألوا الناس شيئا‏)‏‏.‏ قال عوف‏:‏ فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد‏:‏ ناولني إياه‏.‏

وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفاً بغير حساب‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏هم الذين لا يَسْتَرقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ولا يَتَطَيَّرونَ وعلى ربهم يتوكلون‏)‏ فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أى لا يطلبون من أحد أن يرقيهم‏.‏ والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك ‏.‏

وقد روى فيه‏:‏ ‏(‏ولا يرقون‏)‏ وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يرقى نفسه وغيره ولم يكن يسترقى، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به، فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك فى قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم ‏.‏

/وما يروى أن الخليل لما ألقى فى المنجنيق قال له جبريل‏:‏ سل، قال‏:‏ ‏(‏حسبى من سؤالى علمه بحالى‏)‏ ليس له إسناد معروف وهو باطل، بل الذى ثبت فى الصحيح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏حسبى الله ونعم الوكيل‏)‏ ‏.‏قال ابن عباس‏:‏ قالها إبراهيم حين ألقى فى النار، وقالها محمد حين‏:‏ ‏{‏ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 173‏]‏، وقد روى أن جبريل قال‏:‏ هل لك من حاجة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما إليك فلا‏)‏ وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره‏.‏

وأما سؤال الخليل لربه ـ عز وجل ـ فهذا مذكور فى القرآن فى غير موضع، فكيف يقول‏:‏ حسبى من سؤالى علمه بحالى، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسباباً لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة السائلين‏.‏ وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هى عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافى أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التى تقضى بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التى بها ينال كرامته ‏.‏

ولكن العبد قد يكون مأموراً فى بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روى فى الحـديث‏:‏ ‏(‏من شَغَلهُ ذكرى عن مسـألتى أعطيـته أفضـل مـا أعطى السائلين‏)‏، وفـى الترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من شَغَلهُ قراءة القرآن عن ذكرى ومسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏

وأفضل العبادات البدنية الصلاة، وفيها القراءة والذكر والدعاء، وكل / واحد فى موطنه مأمور به، ففى القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن، وفى الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر، وفى آخرها يؤمر بالدعاء، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو فى آخر الصلاة ويأمر بذلك‏.‏ والدعاء فى السجود حسن مأمور به، ويجوز الدعاء فى القيام أيضاً وفى الركوع، وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل، فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به ‏.‏

وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه ‏:‏‏{‏ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37- 41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 127- 129‏]‏

وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به ، وقد ثبت فى الصحيح عن أبى الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏ما من رجل يدعو/لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به‏:‏ آمين، ولك بمثله‏)‏ أى بمثل ما دعوت لأخيك به‏.‏

وأما سؤال المخلوقِ المخلوقَ أن يقضى حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم، فإن الله أمر بسؤال العلم كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏43، والأنبياء‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ‏}‏ ‏[‏ يونس‏:‏ 94‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏}‏ ‏[‏ الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وهذا لأن العلم يجب بذله، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة‏.‏ وهو يزكو على التعليم، لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل، ولهذا يُشبه بالمصباح‏.‏

وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة، لصاحبها أن يسألها ممن هى عنده، وكذلك مال الفىء وغيره من الأموال المشتركة التى يتولى قسمتها ولىُّ الأمر، للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية؛ لأن المستولى يجب عليه أداء الحق إلى مستحقه ‏.‏

ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه، وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه، كما استطعم موسى والخضر أهل القرية‏.‏ وكذلك الغريم له أن يطلب دينه ممن هو عليه‏.‏ وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه؛ / فالبائع يسأل الثمن، والمشترى يسـأل المبـيع‏.‏ ومـن هـذا البـاب قـولـه تعالـى‏:‏ ‏{‏ وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ ‏.‏

 ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به، والمسؤول مأمور بإجابة السائل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏}‏ ‏[‏ الضحى‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏24، 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏‏[‏الحج‏:‏ 63‏]‏، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏إن أحدكم ليسألنى المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏اقطعوا عنى لسان هذا‏)‏‏.‏

وقد يكون السؤال منهياً عنه نهى تحريم أو تنزيه، وإن كان المسؤول مأمورا بإجابة سؤاله، فالنبى صلى الله عليه وسلم كان من كماله أن يعطى السائل، وهذا فى حقه من فضائله ومناقبه، وهو واجب أو مستحب، وإن كان نفس سؤال السائل منهياً عنه‏.‏ ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر فى بعض مغازيه لما استأذنوه فى نحر بعض ظهرهم، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، كيف بنا إذا لقينا العدو غدًا رجالا جياعًا ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها، ثم تدعو الله بالبركة، فإن الله يبارك لنا فى دعوتك‏.‏ وفى رواية‏:‏ فإن الله سيغيثنا بدعائك‏.‏ وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى أن يدعو الله له ليرد عليه بصره ، وكما سألته أم سليم أن يدعو الله لخادمه أنس ، وكما سأله أبو هريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، ونحو ذلك ‏.‏

وأما الصديق فقد قال الله فيه وفى مثله‏:‏ ‏{‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏}‏‏[‏ الليل‏:‏ 17‏:‏ 21‏]‏، وقـد ثبت فى الصحـاح عنـه أنـه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أمَنَّ النـاس عليـنا فى صحبتـه وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا‏)‏ فلم يكن فى الصحابة أعظم مِنَّة من الصديق فى نفسه وماله ‏.‏

وكان أبو بكر يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏}‏‏[‏الليل‏:‏ 17‏:‏ 21‏]‏، فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنيا بكسبه وماله عن كل أحد، والنبى صلى الله عليه وسلم كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏}‏‏[‏ الشعراء‏:‏ 109، 127، 145، 164، 180‏]‏ ‏.‏

وأما على وزيد وغيرهما، فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيدًا كان مولاه فأعتقه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏‏[‏ الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وعلىّ كان فى عيال النبى صلى الله عليه وسلم لجدب أصاب أهل مكة، فأراد النبى صلى الله عليه وسلم والعباس التخفيف عن أبى طالب من عياله، فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم علياً إلى عياله، وأخذ العباس جعفراً إلى عياله، وهذا مبسوط فى موضع آخر ‏.‏

والمقصود هنا أن الصديق كان أمنَّ الناس فى صحبته وذات يده لأفضل / الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان ينفق ماله فى سبيل الله كاشترائه المعذبين‏.‏ ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم محتاجاً فى خاصة نفسه لا إلى أبى بكر ولا غيره، بل لما قال له فى سفر الهجرة‏:‏ إن عندى راحلتين فخذ إحداهما، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بالثمن‏)‏ فهو أفضل صديق لأفضل نبى، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم ‏.‏

ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم‏:‏ ‏{‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ‏}‏‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏، والدعاء جزاء كما فى الحديث‏:‏ ‏(‏من أسدى إليكم معروفـاً فكـافئوه، فإن لـم تجـدوا مـا تكـافئونه بـه فادعـوا له حتـى تعلمـوا أن قـد كافأتموه‏)‏‏.‏ وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول‏:‏ اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله ‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ إذا قال لك السائل‏:‏ بارك الله فيك، فقل‏:‏ وفيك بارك الله، فمن عمل خيرًا مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبياً أو رجلاً صالحاً أو ملكاً من الملوك أو غنيا من الأغنياء، فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصاً لله يبتغى به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاءً ولا دعاءً ولا غيره، لا من نبى ولا رجل صالح ولا من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين ‏.‏

وهذا هو دين الإسلام الذى بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، / فلا يقبل من أحد ديناً غيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏}‏‏[‏ آل عمران‏:‏ 85‏]‏، وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء ـ عليهم السلام ـ على الإسلام، قال نوح‏:‏ ‏{‏ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏}‏‏[‏ يونس‏:‏ 72‏]‏، وقال عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 130‏:‏ 132‏]‏، وقال موسى‏:‏‏{‏ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ‏}‏‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، وقالت السَّحَرَةُ‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 126‏]‏ ، وقال يوسف‏:‏ ‏{‏ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏}‏‏[‏ يوسف‏:‏ 101‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ‏}‏‏[‏ المائدة‏:‏ 44‏]‏، وقال عن الحواريين‏:‏ ‏{‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏}‏‏[‏ المائدة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

 ودين الإسلام مبنى على أصلين‏:‏ أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل، أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد فى كل زمان بما أمر به فى ذلك الزمان‏.‏ فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل ‏.‏

وكذلك فى أول الإسلام لما كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجاً عن دين / الإسلام‏.‏ فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله، من واجب ومستحب، فليس بمسلم ‏.‏

ولابد فى جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏}‏‏[‏ البينة‏:‏ 4، 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ ُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ‏}‏‏[‏ الزمر‏:‏ 1 ـ 3‏]‏ ‏.‏

فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمور بأن يفعله خالصاً لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء‏:‏ لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء، لا دعاء ولا غيره ‏.‏

وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب بل ولا يستحب إلا فى بعض المواضع، ويكون المسؤول مأموراً بالإعطاء قبل السؤال، وإذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك صلى الله عليه وسلم فإنه أجل قدراً وأغنى بالله عن غيره، فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد ‏:‏

مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهى من نوع الشرك ‏.‏

ومفسدة إيذاء المسؤول وهى من نوع ظلم الخلق ‏.‏

/وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس‏.‏ فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة، وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله ‏.‏

وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به، كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو أيضا ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة، فإنه ثبت عنه فى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏)‏، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الداعى إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ‏.‏

ولهذا لم تجرِ عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال؛ لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيء‏.‏ وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره، وإنما ينتفع الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب، كما قال فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له‏)‏‏.‏ فالنبى صلى الله عليه وسلم ـ فيما يطلبه من أمته من الدعاء ـ طلبه طلب أمر وترغيب، ليس بطلب سؤال‏.‏ فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه، فهذا أمر الله به فى القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏}‏‏[‏ الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ ،‏.‏ والأحاديث عنه فى الصلاة والسلام معروفة‏.‏ / ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، كما ثبت فى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ، فإنه من صلى علىَّ مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لى الوسيلة، فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وفى صحيح البخارى عن جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏(‏من قال حين سمع النداء‏:‏ اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذى وعدته إنك لا تخلف الميعاد‏.‏ حلت له شفاعتى يوم القيامة‏)‏، فقد رغب المسلمين فى أن يسألوا الله له الوسيلة، وبيَّن أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، فإن الجزاء من جنس العمل ‏.‏

ومن هذا الباب الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه وابن ماجه أن عمر بن الخطاب استأذن النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له ثم قال‏:‏ ‏(‏لا تنسنا يا أخى من دعائك‏)‏، فطلب النبى صلى الله عليه وسلم من عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلى عليه، ويسلم عليه، وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه‏.‏ وهو صلى الله عليه وسلم أيضاً ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضاً بالخير الذى يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له ‏.‏

/ومن هذا الباب قول القائل‏:‏ إنى أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتى ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت‏)‏ قال‏:‏ الربع ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قال‏:‏ النصف ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قال‏:‏ الثلثين ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قال‏:‏ أجعل لك صلاتى كلها ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك‏)‏ رواه أحمد فى مسنده والترمذى وغيرهما‏.‏

وقد بسط الكلام عليه فى ‏[‏جواب المسائل البغدادية‏]‏‏.‏ فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته، فإنه كلما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة‏:‏ ‏(‏آمين، ولك بمثله‏)‏ فدعاؤه للنبى صلى الله عليه وسلم أولى بذلك ‏.‏

ومن قال لغيره من الناس‏:‏ ادع لى ـ أو لنا ـ وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضا بأمره، ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبى صلى الله عليه وسلم، مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح ‏.‏

وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به فى ذلك، بل هذا هو من السؤال المرجوح الذى تركه إلى الرغبة إلى الله ورسوله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله‏.‏ وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع ‏.‏

/وأما سؤال الميت فليس بمشروع، لا واجب ولا مستحب، بل ولا مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة، بل إما أن يكون مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع ‏.‏

فقد تبين أن ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم من طلب الدعاء من غيره، هو من باب الإحسان إلى الناس، الذى هو واجب أو مستحب‏.‏

وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز، ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم، هو من باب الإحسان إلى الموتى الذى هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حق الحق فى الدنيا والآخرة، والزكاة حق الخلق، فالرسول أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئا‏.‏

ومن عبادته الإحسان إلى الناس، حيث أمرهم الله سبحانه به، كالصلاة على الجنائز وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه، فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم أو أنهم لا يقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد الصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين، مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم‏.‏ فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة‏.‏

/فالذى شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد فى المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد فى المعاش والمعاد‏.‏

فإن الله ـ تعالى ـ أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏‏[‏ النساء‏:‏ 36‏]‏ وهذا أمر بمعالى الأخلاق، وهو ـ سبحانه ـ يحب معالى الأخلاق ويكره سفسافها‏.‏

وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏ رواه الحاكم فى صحيحـه، وقـد ثـبت عنـه فى الصحيـح صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اليـد العليـا خـير من اليـد السفلى‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏اليد العليا هى المعطية، واليد السفلى السائلة‏)‏، وهذا ثابت عنه فى الصحيح‏.‏

فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم ‏؟‏ وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له، من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه، وأن يُحَبّ كما يحب الله ‏؟‏ وأين صلاح العبد فى عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده فى عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه ‏؟‏‏.‏

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التى تصلح أمور أصحابها فى الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التى تفسد أمور أصحابها‏.‏

ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏‏[‏ يس‏:‏ 60‏:‏ 62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏‏[‏ الحجر‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏‏[‏ النحل‏:‏ 98‏:‏ 100‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏‏[‏الزخرف‏:‏ 36- 37‏]‏‏.‏

وذكر الرحمن هو الذكر الذى أنزل الله على رسوله الذى قال فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏‏[‏الحـجر‏:‏ 9‏]‏، وقـال تعـالى‏:‏ ‏{‏قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏‏[‏ طه‏:‏ 123‏:‏ 126‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏[‏ الأعراف‏:‏ 1 ـ 3‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏‏[‏ إبراهيم‏:‏ 1، 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏‏[‏ الشورى‏:‏ 52‏:‏ 53‏]‏‏.‏

فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر، وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر، ولا طريق إلى الله إلا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين‏.‏

وكل ما خالف ذلك فهو من طريق أهل الغى والضلال، وقد نزه الله تعالى نبيه عن هذا وهذا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏}‏‏[‏ النجم‏:‏ 1 ـ 4‏]‏، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول فى صلاتنا‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏

وقد روى الترمذى وغيره عن عدى بن حاتم، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى‏.‏

وكان غير واحد من السلف يقول‏:‏ احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون‏.‏

فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود الذىن قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏[‏ البقرة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ /ومن عبد الله بغير علم، بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏‏.‏

فالأول من الغاوين، والثانى من الضالين‏.‏

فإن الغى اتباع الهوى، والضلال عدم الهدى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏[‏ الأعراف‏:‏ 175، 176‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏‏.‏

ومن جمع الضلال والغى ففيه شبه من هؤلاء وهؤلاء‏.‏ نسأل الله أن يهدينا ـ وسائر إخواننا ـ صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‏.‏